غزة /// ' بالروح بالدم نفديك يا "أبو عمار" هل يصح الشعار الذي كانت تردده حناجر آلاف الشباب والشابات تحية للقائد وهو يلوح بيديه ويرفع شارة النصر، كي يردده الطلبة في دربهم الأمر الأول بمدارس غزة ؟.
ربما، لأن الشعار أصلاً غرسه الزعيم الخالد في نفوس أبنائه: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين. والوطن وقائده ومفجر ثورته مترادفان او اسمان لمعنى واحد وهوية واحدة.
وربما، لأن الرجل ارتبط اسمه بالفكرة التي اطلقها، وهو سيد الفكرة الذي لا يموت وإنْ رحل جسداً، فالفكرة – الثورة باقية.
رغم العدوان والقهر وانفجار القذائف على شريط شمال غزة، والتهديد باجتياح شريط الجنوب، ورغم الغربان المسلحة السوداء التي تتفرس في عيون الاطفال وحقائبهم المدرسية، الغربان المدججة بالسلاح والهراوات والسيارات المنهوبة والمسروقة التي ترابط على بوابات المدارس كان الأطفال يرددون: 'بالروح بالدم نفديك يا ابو عمار'، لوحوا بأعلام فلسطين ورايات فتح، خرجوا من المدارس وجابوا شوارع مدن القطاع ومخيماته قبل أن ترهبهم الغربان فتعتقل وتطلق الرصاص في كل الاتجاهات.
في مثل هذا اليوم رحل الرجل الأكبر من كل الكلمات، الرجل الذي قاد قضية شعبه شعب فلسطين في المنافي، ليحط به في بوابات القدس.
رحل الرجل الذي أعطى اسم فلسطين بعده السياسي والإنساني. كانت فلسطين قبله رمز نكبة ونكسة فصارت معه أملا وسنبلة متمردة على مناجل كل الحصادين. وبرحيله خسرت فلسطين قائداً لا شبيه له.
وفي مثل هذا اليوم فقدت الاشياء معناها وبريقها وكأنه إكسير الحياة وبرحيله بدأت مرحلة هي الأقسى والأصعب.
اليوم ننحني أمام ضريح الرئيس الشهيد الخالد ياسر عرفات، الذي لم يضع البوصلة ودفع حياته ثمناً غالياً لموقفه الوطني الصلب تعبيراً عن إرادة شعب فلسطين.
القائد الذي لم يفقد إيمانه في أشد اللحظات قسوة، فأربك الخصوم وشد من أزر الأصدقاء في آن واحد، حين أعلنها وهو في أوج حصاره، إمَا أسيرا وإمَا طريدا وإمَا شهيدا. شهيداً شهيداً شهيداً.
كل الذين عرفوكْ يا سيدي، قالوا كان يؤدي الصلاة في مواقيتها وخاصة صلاة الفجر، وكان عاشقاً للعمل لا ينام من الليل الا قليلاً، وكان الناسك والزاهد والمقاتل والمفاوض الممسك بثوابت شعبه ووطنه.
فكيف صمدت فتح واستمرت وتعاظمت؟ حركات أخرى غيرها واحزاب وتنظيمات وفصائل نمت على ضفافها وانتعشت في حماها وأمِنت إلى جوارها.
وكانت فتح بالنسبة للبعض حمالة الحطب، حتى إذا ما استوى عود هؤلاء البعض سرعان ما تطاولوا عليها وراحت تراودهم أحلام مرضية في القضاء عليها.
فالذين انشقوا عنك واحتموا ببعض العواصم وأطلقوا عليك نيران مدافعهم في طرابلس والبقاع عادوا إليك، يطلبون الصفح والاستيعاب من جديد.
يا ياسر أيها الشهيد الخالد، إن الذين تمردوا عليك وذبحوا أبناءك في غزة، مزقوا صورك وداسوا الراية والعلم ورفعوا بدلاً منها أعلام دول أخرى، وتطاولوا على خليفتك الأمين على إرثك النضالي وحقوق شعبنا المشروعة والمنتخب من شعبه، يشتمون ويلعنون ويفتون على هواهم وحسب أهوائهم، يحرّمون ما أحل الله ويحللون ما حرَم، فبئس ما يفعلون.
نجحوا في فرض الصمت بالتهديد سراً وعلانية. فما من أحد يجرؤ، وإنْ جرؤ كانت تأتيه النصيحة من كل صوب فتلجمه وإن لم تسكته كان مطلوباً أن يأتي الظلام فلا تراه عين وأنْ تعجز الناس عن الكلام مهما طالت ألسنتها.
لم يعد في وسع الشارع الفلسطيني سوى الاندهاش العاجز سلاحاً للتعبير، صار الناس ينامون وعيونهم مفتوحة حذر الموت والإرهاب الذي يزور منازلهم قبل الفجر ويختطف أبناءهم، انقلبت فوهات البنادق عن اتجاهها إلى الصدور، حتى صارت غزة مدينة الموت تحكمها سلطة البطش والقمع والقهر.
لماذا كل ذلك ألسنا منهم وهم منا؟! لم يعد خافياً إلاَ على أعمى البصر والبصيرة أن الوطن والقضية إلى ضياع ما دامت الحزبية تحكم أقوالنا وأفعالنا، وأن ما يتم هو ذبح للوطن ولأهله من الوريد إلى الوريد، وليس تضحية من أجل الوطن.
هل بقي فينا من لم يسمع أنَات الجرحى والأسرى، ولم تهزه جثامين الأحبة التي نرفعها معاً على الأكتاف مع كل يوم جديد. اليوم وفي ذكراك، تعود غزة إليك ترتدي العلم بألوانه الأربعة وقد توحد معها ولأجلها لون الراية، وأعلنت التحدي ورسالتها قد وصلت.
اليوم غزة تختلف، غزة تتحول إلى عروس فلسطينية، وطائر فينيق تنفض الغبار الذي ألقي عليها وتنهض من جديد. فانهض يا سيد الفكرة، يا سيد الشهداء، ويا سيد الحلم، لترى غزة تمسك من جديد بالفكرة والحلم الذي زرعت.